ملجأ فلسطيني في كييف.. مستشفى الدبابسة يتصدى لنيران الروس
تلك الحجارة التي رماها في وجه المحتل الإسرائيلي؛ جزء منها ربما اخترق صدره فرماها وهرب بحثاً عن ملجأ عسى أن يجد فيه مكاناً هانئاً بعيداً عن الحروب وسط صمت دولي تجاه قضية بلاده، فما إن حمل رَكْبَه وسافر من أجل تلك الحياة؛ حتى وجد نفسه أمام حرب من نوع آخر، حرب لا ناقة له فيها ولا جمل.
كأن الدمار يلاحقه أينما كان وحيثما مكث، الدكتور إسلام دبابسة، طبيب فلسطيني، يعيش في أوكرانيا منذ 1996، صاحب ومؤسس مستشفى «آي دي كلينيك» في العاصمة كييف، لم يتوقع يوماً أن تلاحقه لعنة حرب عاشها في غزة أثناء الانتفاضة الأولى، إلى موطنه الجديد أو أن تراوده في سباته.

26 عاماً قضاها دبابسة بعيداً عن فلسطين؛ التحق خلالها بكلية الطب جامعة أوكرانيا الوطنية عام 1996، ومن ثم انضم إلى فريق الأبحاث في مدينة كييف عام 1999؛ حيث لا يزال على مقاعد الدراسة، وتمكن من متابعة التطور العلمي والعلم الحديث. وفي عام 2007 أكمل الطبيب المغترب، رسالة الدكتوراه في جراحة القلب والأوعية الدموية، وتم تتويجه عام 2007 من عمدة مدينة كييف؛ لدوره في بناء العلم والطب.
في العام ذاته، شرع دبابسة في تأسيس أول مركز طبي هناك؛ حيث أسس فريق عمل متكاملاً، ومن ذاك الحين وهو يعمل على تطوير نفسه واتجاهات واختراعات جديدة في مجال الطب، إلى أن افتتح مركزه الذي لطالما راوده في حلمه عام 2017.

بيان تحذيري نشرته وزارة الخارجية الفلسطينية عقب إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدء الحرب على أوكرانيا الخميس الـ24 من فبراير الماضي، كان بمثابة شريط فيديو مسجل أعاد عليه مشاهد دموية؛ ذكَّره بما عاصره في فلسطين سنة 1987، لتحيي جراحاً مضى عليها ست وعشرون عاماً.
من هنا، بدأت انتفاضة الدبابسة الثانية؛ هذه المرة لم تكن بالحجارة كسابقتها، بل بتسخير مركزه الطبي إلى ملجأ لمتضرري الحرب في كييف؛ أياً كانت جنسيته، لا فرق بين عربي أو أعجمي داخل ملجئه. هذا أولاً، ثانياً هو أب لثلاثة أبناء، بنتين وولد من أم أوكرانية؛ أكبرهم في التاسع عشر من عمره، ويحكي الطبيب الفلسطيني تفاصيل ما شاهده وعاناه وأسرته في كييف.
الجيش الروسي لا يمل من محاولات تشكيل حصار على العاصمة كييف وعزلها عن باقي المدن من خلال قصف المدينة جواً، فضلاً عن مناورات ومناوشات براً وبحراً، أدت كلها إلى شلل في المنشآت الصحية لنقص إمداداتها بمستلزماتها الطبية، بعد قطع كل السبل عن العاصمة.

تحوَّل المستشفى في البداية إلى مراكز خدمة عسكرية لمعالجة الجرحى والمصابين من الجنود والمدنيين، الذين تجاوز عددهم الآلاف، في ظل استهداف واضح ومُكثف للمدنيين، ولا أدري ما السبب لذلك؟!، لكنه أمر واضح يظهر جلياً في تكدس الجرحى بالمستشفيات، ومن ثم إلى ملجأ ضم تقريباً سبعة عشر لاجئاً، المفاجأة أن معظمهم أوكرانيون، وما زالت تستقبل آخرين.
«واجهتنا أزمة جديدة، وهي انتشار العديد من الأمراض، وتهديد حياة عدد كبير من المصابين بـ(السرطان) خصوصاً الأطفال جراء الانشغال باستقبال جرحى ومصابي الحرب اللعينة، فضلاً عن أن معظم أدوية السرطان يتم استيرادها من الخارج؛ الأمر المستحيل في هذا التوقيت».

الأجواء هنا تزداد سوءاً يوماً تلو الآخر، وقد تصل في أية لحظة إلى حرب شوارع؛ لذلك ومع الساعات الأولى للضرب بعد إعلان بوتين العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، عملنا على جمع الفلسطينيين في المستشفى، وقُمنا بتأمين سيارات لهم ونقلهم إلى محطات القطارات، حيث توجهوا إلى مدينة البوف، كونها أكثر أماناً في ذات الحين على الأقل، ومن ثم حاولنا نقلهم إلى رومانيا؛ لأن عدد النازحين على الحدود هناك، أقل من الموجودين على الحدود البولندية.
«كنا نعمل على إخراج الفلسطينيين إلى خارج أوكرانيا، بالتعاون مع الجهات الرسمية الفلسطينية هناك، والحمد لله لم نسجل إصابات في صفوف مواطنينا من بداية الحرب حتى إجلائهم بأمان».
«الإنسانية ما جعلتني أفعل كل هذا، رغبتي في فعل أي شيء قد يقربني من الله، فالمال مال الله.. لقد مررنا بهذه الأمور في فلسطين، وهذا انتماء للإنسانية؛ ليس فقط لفلسطين، لقد أصاب القصف الروسي منزلي، ربنا يعوض عليَّ، ورغم إيماني الشديد بربي؛ فإنني أخشى المجهول».

إجابة تُذهل عقل قارئها للحظة قبل قراءتها كاملة، حينما رد الدكتور دبابسة على سؤال: لماذا لم تغادر البلاد مع من أوصلتهم إلى رومانيا؟ «لا.. لن أغادرها، أنا في أوكرانيا منذ 1996، والآن جاء دوري ومن هم مثلي لنقدم للبلد الذي استقبلنا شباباً مراهقين، وصنع منا رجالاً، وسمح لنا بالدراسة في جامعاته وأعطانا شهادات، استطعنا من خلالها العمل وكسب المال، لنتزوج من خلاله بمَن نحب، ولنبني معاً بيتاً زوجياً، نسمع فيه ضحكات أطفالنا».
«أنا أعلم جيداً أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، هو أول من دعم الاحتلال الإسرائيلي في غزو بلادنا، وأعلم أن الكثيرين قد يستغربون من قرار عدم مغادرتي؛ لكني أقف مع الشعب الأوكراني، والرئيس لا يعني لي أي شيء، لأنه دوماً ما يتغير ويأتي غيره».

في الوقت الذي لم تترك فيه نيران القوات الروسية أخضر أو يابساً إلا وأكلته، تساءل البعض عن كيفية تدبير من هم داخل المستشفى «الملجأ» شؤونهم وكيف يأكلون إذا كانوا لا يخرجون، «الحمد لله نقدم ما نستطيع: بندورة (طماطم) وخيار ومعلبات، والآن أصبحنا نستطيع تجهيز بعض المخبوزات».
«لكننا نأمل ونرجو الله أن تتجه الأمور إلى الحل، وهو ما يبدو على مدار اليومين الأخيرين، ونرجو من الله الأمن والأمان لجميع الشعوب والأوطان؛ خصوصاً بعد أن تكرر مشهد أيقونة فلسطين الشهيد محمد الدرة، بعدما قصف الجيش الروسي منزلاً ليس بالبعيد عن المستشفى، ذهبنا للمساعدة، ووجدنا الأب والأم وطفلين يحترقون، ورغم هذا كان الأب تدفعه جينات الأبوة، ويغطي بجسده الجميع حتى لا يقع عليهم شيء، لكنهم ماتوا جميعاً، هذه الحرب كررت مشاهد كثيرة للدرة، هذه الحرب أحرقت أوكرانيا، وهذا ما يجعلها مختلفة بعض الشيء عن حرب فلسطين».
