جمعهم العلم وفرقتهم الحرب.. كيف نجا 11 طالبا مصريا في أوكرانيا؟
على خلفية التحذيرات المتكررة بشتى وسائل الإعلام العالمية، خصوصاً الأمريكية منها، بشأن اعتزام روسيا شن هجوم عسكري ضد أوكرانيا؛ بذريعة استهداف المواقع العسكرية فقط، لكن الحقيقة تكمن في تخوف موسكو من رغبة أوكرانيا في امتلاك الأسلحة النووية، وفقاً لرئيس الاستخبارات الخارجية الروسية، كانت محاولات أحد عشر طالبا مصريا مغتربا، للنجاة مما قد تسفر عنه تلك الحرب الضروس.
اتخذ زياد وشقيقته ورفاق رحلتهما الدراسية في أوكرانيا قرار الرحيل، جمعوا أغراضهم التي وجدوها ضرورية، قاصدين محطة قطار كييف، حيث مكثوا جميعا على الرصيف، ينتظرون الفرصة للفرار بحياتهم من ويلات الحرب التي شهدتها العاصمة، إلى أقرب البلدان التي لم تطالها الحرب التي اندلعت شرارتها مع فجر الخميس 24 فبراير 2022، ثم العودة إلى أوطانهم، لكن الزحام كان له رأي آخر، حين فرق شملهم.
القطار الذي تسابق عليه الطلاب الدارسون في كليات مختلفة، كان بالنسبة لهم الأمل الوحيد، وطوق النجاة الأخير، الذي لاح بالأفق، فكان بمثابة بصيص أمل في الفرار بالنفس من نيران الحرب.
أحد عشر طالباً، أحدهم يدرس بالصف الثالث كلية الطب البشري في جامعة تارس شيفشينكو الأوكرانية، أخته طالبة بالصف الأول الطب أيضاً جامعة باجامولتس، ترافقهما أختان أخريان تدرسان بذات جامعة الأخت الأولى، إحداهما بكلية الطب البشري، والأخرى بكلية طب الأسنان، والاثنتين في السنة الأخيرة، كان معهم ثلاثة طلاب، وأربع طالبات أقارب، كلهم خريجي هذه السنة، منهم من هو خريج كلية الطب البشري، وكلية طب الأسنان، والاقتصاد.
الطلاب جميعهم يدرسون في جامعات أوكرانية حكومية معترف بها في مصر، مسجلين في البعثات تحت الإشراف العلمي، عدا من هم بالصف الأول فلم يسجلوا، نظراً لعدم انتهاء الإجراءات، نتيجة اندلاع الحرب في الساعات الأولى من الـ24 من الشهر الماضي، ليحكي أشرف، والد الطالب زياد وشقيقته، ما عانى منه نجلاه وأقرانهما طوال رحلة عودتهم، من رعب منتشر في الأجواء، وافتراقهم في محطة القطار إلى أن تجمعوا ثانية في لفوف.
«كون الطلبة، أسرة مصرية خالصة في بلاد الغربة، تجمعهم جينات الفراعنة، وشغف الدراسة في جامعات أوكرانية متطورة، وقبل بداية القصف في الخميس المشؤوم، وعندما أحسوا بالخطر أعدوا العُدة فسحبوا بعض النقود، وخزنوا الطعام، ورتبوا شنطة بها الأوراق والأغراض المهمة، تحسباً لأي خطر».
مع أول انفجار حاولوا لمّ بعضهم البعض والذهاب إلى أقرب ملجأ كي تبدأ رحلتهم بكل ما فيها من صعاب، حتى خرجوا جميعاً من أوكرانيا، وهم يتضرعون إلى الله أن ينجي من هو عالق هناك.
بعدها توجهوا إلى ملجأ في العاصمة كييف، ليقضوا به يوماً، من الصباح الباكر وحتى الظهيرة، وقتها قرروا التحرك إلى أقصى الغرب حتى يخرجوا من حدود بولندا كما وعدت السفارة المصرية هناك.
بعناء شديد ورعب لا يعلمه إلا الله، نجح الطلبة في استقلال وسائل المواصلات، حتى بلغوا محطة القطار، وهناك بدأت تفاصيل معاناة جديدة، حين تفرقوا نتيجة التدافع، فهذا أخ يستقل قطارا، وتلك أخت تستقل آخر، على مدى 12 ساعة تقريبا اختلفت خلالها مساراتهم جميعا، تجمع الطلاب من جديد.
لم يكن الطلاب يعلمون أنهم حين جمعتهم الأقدار ثانية، فقد نجوا من المهالك التي تحدق بهم بين الحين والآخر، ومن المخاطر التي تحفهم على أراضي الحرب، ومن الصعاب التي تكتنف رحلة النجاة بأسرها، إذ بدأ فصل جديد في رحلة معاناتهم، ليكمل ما سبقه من فصول، فاتصلوا بالسفارة التي طالبتهم باستقلال الأتوبيسات والتوجه نحو الحدود، وإرسال جميع بياناتهم التي تشمل: الاسم كاملا، ورقم جواز السفر، والوقت المتوقع للوصول.
ظن الطلاب أن الأتوبيسات سوف تقلهم بعيدا عن ويلات الحرب، لكن مفاجأة غير متوقعة كانت تنتظرهم، فالأتوبيسات كانت تسمح للأمهات الأوكرانيات فقط بالصعود، وبعد محاولات عدة واستماتة مع السائقين نجحوا في أن يلحقوا طالبة واحدة فقط في كل أتوبيس، معتقدين أنهم أوصلوا الطالبات إلى بر الأمان، بعدها حاولوا هم تدبير أمورهم في سيارات خاصة توصلهم إلى المعبر.

لم تنتهِ المفاجآت المزعجة للشباب بعد، إذ فوجئوا ثانية بأن الأتوبيسات اتجهت إلى معابر مختلفة، فمثلما فرقتهم القطارات فرقتهم الأتوبيسات أيضا، فذهبت الأخت إلى معبر، بينما ذهب شقيقتها إلى آخر، ومن فورهم اتصلوا بالسفارة، التي طمأنتهم: «لا تقلقوا».
استقل الطلاب سيارات خاصة تقربهم من المنفذ، بحثاً عن شقيقاتهم، رغم أن المسافة بين محطة القطار والمنافذ تتراوح ما بين 80 إلى 90 كيلومترا، غير أن العربات أوصلتهم إلى مناطق قريبة، ليتابعوا رحلتهم سيرا على الأقدام مسافة تجاوزت الـ 20 كيلومترا، في جو قارس.. ولك أن تتخيل!!
على الجانب الآخر، وصلت بعض الطالبات إلى المعابر، ونجحن في العبور إلى بولندا، وهناك لم يجدن من يقف إلى جوارهن ويساعدهن في العودة إلى أرض الوطن، بعدما وصلن إلى المنفذ منهكات القوى، حيث لم يسمح لهن الأمن بالمرور لعدم وجود أتوبيسات، فأصبحن يعشن في درجة حرارة تحت الصفر بأربعة درجات مع أناس لا يعرفن لغتهم، ولا يعرفن أي شيء في بلدة غريبة عليهن، في حين أن أختها أو أخيها على الجانب الآخر لا يعرفون كيفية الوصول إليهن.
وبينما يحكي الأب معاناة نجليه، تذكر ما عاناه مسبقاً عقب مرحلة الثانوية، وقبيل السفر إلى أوكرانيا، «في البداية منذ 3 سنوات ابني حصل على مجموع 99% وبعض الأعشار، وجد جامعة خاصة يدرس بها مجال الطب ـ هدفه منذ الصغر ـ وهناك يدرس إخوة صديقه، في أوكرانيا، بالفعل تواصل معهم وقدم أوراقه في جامعة حكومية، وبدأ دراسته وهو الآن بالصف الثالث، بينما أنهت أخته الثانوية العام الماضي، وكان تقديرها 99.5% وبعض الأجزاء، وكحال أخيها لم تستطع الالتحاق بكلية الطب في مصر، لتكرر هي الأخرى مشوار شقيقها، لكن بعد هذا الجهد، قد ينتهي كل شيء نتيجة الحرب».

في الأخير، وبعد معاناة تكاد تكون أصعب من معاناة الحرب نفسها، استطاع الشباب التجمع مرة أخرى في مدينة لفوف الحدودية، وعاد كل منهم إلى موطنه، فمنهم من سافر إلى مصر، ومنهم من اتجه إلى أهله في دول الخليج، وآخرون ما زالوا في بولندا.
الغريب في الأمر أن معاناة الطلاب لم تنته بعد، حتى بعد عودتهم إلى أحضان أهليتهم وذويهم، الذين يعرفون وحدهم ما آلت إليه أحوالهم، وما وصلت إليه صحتهم النفسية، وفي هذا السياق يقول أشرف: «أنا بنتي سمعت صوت دورية الشرطة وهي في بيتها مع أخوتها وأمها وأبيها، وسط المنزل التي عاشت به عمرها كله تقريباً، بينها وبين الحرب الآف الأميال، ورغم كل ذلك، أخذت بيد أخيها محاولة جره والهرب به، وهي تضع طبقا على رأسها ليحميها، وهو يقول لها إهدي.. إهدي.. إحنا في بيتنا، فانفجرت ضاحكة، وقالت: لا تسخروا مني فإني رأيت ما يكفي من الانفجارات والطلقات أمام عيني مباشرة.. أعطوني وقتي حتى ارتاح».
وبلسان حاله يقول الأب: «أبناؤنا يحتاجون إلى دعم نفسي كبير، لأن ما مروا به ليس بالشيء الهين، خصوصاً من هم ما زالوا في أوكرانيا ولا يستطيعون الخروج، لكننا نحثهم على الخروج، تاركين أمرهم لله، ويبقى دورنا في دعمهم والدعاء لهم، أنا الحمد لله أبنائي أمام عيني الآن، لكن كل المتواجدين هناك هم أبناؤنا أيضاً».