أزمة نقص الطاقة تهدد الاقتصاد العالمي
على الرغم من تعافي الاقتصاد العالمي تدريجيا من تداعيات وباء كورونا، إلا أن أزمة الطاقة المفاجئة التي تضرب معظم دول العالم لا تزال تهدد سلاسل التوريدات والإمدادات، وذلك تزامنا مع استعدادات قادة العالم للاجتماع في قمة تاريخية حول المناخ في شهر نوفمبر المقبل في مدينة جلاسكو في اسكتلندا.
وهنا تثار العديد من التساؤلات عما إذا كان العالم على استعداد لثورة الطاقة الخضراء في الوقت الراهن أم لا، وسط نقص الإمدادات وعدم كفاية مصادر الطاقة المتجددة لتأمين الاحتياجات اللازمة وخاصة الطاقة الكهربائية.
وبحسب تقرير لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية، فقد أصبح من الصعب الحصول على الطاقة في الوقت الحالى، حيث تقوم بعض المقاطعات في الصين بترشيد استهلاك الكهرباء، ويدفع أوروبيون أسعار باهظة للغاز الطبيعي المسال، ومحطات الطاقة في الهند تواجه اقتراب نفاذ الفحم.
قفزات بأسعار النفط
إن أزمة الطاقة الحالية تفرض على العالم قدرا كبيرا من الحذر في التعامل مع ملف التحول من الطاقة التقليدية إلى الطاقة النظيفة حتى لا يواجه عواقب يصعب استيعابها.
أزمة الطاقة التي تعصف باقتصادات العالم خيمت بظلالها على أسعار النفط التي ارتفعت بأكثر من 2 في المئة لتواصل مكاسبها وسط انتعاش في النشاط الاقتصادي وقيود على الإمدادات من كبار المنتجين.
فقد ارتفع خام برنت ليستقر عند 84.56 دولار للبرميل وهو السعر الأعلى منذ أكتوبر 2018، كما سجل الخام الأمريكي زيادة كبيرة ليصل إلى 82.02 دولارا للبرميل، وهو أعلى مستوى له منذ أواخر العام 2014.
وتسببت أزمة الطاقة في ارتفاع أسعار الفحم والغاز والكهرباء إلى مستويات غير مسبوقة في الأسابيع القليلة الماضية مدفوعة بنقص واسع النطاق للطاقة في آسيا وأوروبا والولايات المتحدة، مما جعل النفط أكثر جاذبية كوقود لتوليد الطاقة.
وبحسب عدد من المحللين سيقدم استنزاف المخزونات وانضباط أوبك في حصص الانتاج وأزمة الطاقة المستمرة دعما قويا لأسعار الخام في الشهور الثلاثة المقبلة.

روسيا والاستفاذة من الأزمة
وتعد روسيا من أكثر المستفيدين من هذه الأزمة التي يمر بها العالم، وذلك في ظل حاجة أوروبا الماسة للطاقة مع اقتراب فصل الشتاء وسط موجة ارتفاع كبيرة ومتسارعة في الأسعار تعاني منها القارة العجوز.
وتضغط روسيا من أجل الحصول على الموافقة الأوروبية على خط أنابيب الغاز الطبيعي "نورد ستريم2" الذي انتهت من تدشينه من أجل توريد الغاز إلى أوروبا.
ويمر خط "نورد ستريم 2" أسفل بحر البلطيق بين روسيا وألمانيا، لكنَّه مقيَّد بعملية ترخيص طويلة ومعقدة وتلعب المواقف السياسية دورا بارزا فيها.
وأرجع فلاديمير بوتين الرئيس الروسي أزمة السوق الحالية نتيجة تسارع التعافي الاقتصادي بوتيرة أسرع من المتوقَّع في جميع أنحاء العالم، الأمر الذي أدى إلى تزايد الطلب على الطاقة.
وقال بوتين إن الشتاء الطويل والبارد بشكل غير متوقَّع أدى إلى استنفاد مخزون الغاز في أوروبا، خاصة بعد تحوُّل السلطات الأوروبية من العقود طويلة الأجل التي تفضِّلها عادةً روسيا إلى المبيعات قصيرة الأجل في بورصات المنطقة وهو ما صب في تحطيم أسعار الغاز جميع المستويات القياسية لأكثر من 1400 دولار لكل ألف متر مكعب، وسط توقعات لتصل إلى نحو 2000 دولار لكلِّ ألف متر مكعب خلال الفترة المقبلة.
تأثر أوروبا
وتشهد أسعار الغاز في أوروبا ارتفاعا كبيرا إذ زادت بأكثر من 25% وسط انهيار مخزونات القارة العجوز ، حيث سجل الغاز المرجعي القاري والبريطاني مستويات قياسية جديدة وسط ارتفاع الطلب مع اقتراب الشتاء خصوصا في آسيا، وكذلك العرض المحدود وانخفاض المخزونات في جميع أنحاء العالم.
يأتي ذلك في الوقت الذي تراجع فيه المخزون الأوروبي من الغاز الطبيعي إلى أقل مستوى له منذ حوالي 10 سنوات، بالنسبة لهذا الوقت من العام، وهو ما يشير إلى احتمالات استمرار ارتفاع الأسعار خلال الفترة المقبلة.
ومع استمرار ضعف إمدادات الغاز سواء من روسيا أو من النرويج ، طالبت فرنسا وإسبانيا وجمهورية التشيك واليونان ورومانيا بتبني "نهج مشترك" في أوروبا لخفض أسعار الطاقة.
ورأت الدول الخمس ضرورة إنشاء "صندوق أدوات تنظيمي" لتنسيق الاستجابات الوطنية بالدول الأوروبية من أجل مواجهة ارتفاع أسعار الطاقة خاصة أسعار الكهرباء.
وأجبرت أزمة الطاقة العالمية شركة إنتاج كهرباء ألمانية على وقف محطتها لتوليد الكهرباء بعد نفاد الفحم لديها.
وتحوّلت محطات توليد الكهرباء الأوروبية إلى الفحم بسبب نقص إمدادات الغاز الطبيعي، ودخلت سوق التداولات الفورية لتأمين مزيد من الشحنات، كما طالبت روسيا بضخ مزيد من الإمدادات. في المقابل، قد يؤدي تحرك الصين لتأمين مزيد من الإمدادات إلى تفاقم الأزمة، في الوقت الذي تكافح فيه أوروبا من أجل تأمين الوقود هذا الشتاء.
الأمر نفسه ظهر في بريطانيا التي توالى فيها إفلاس شركات الكهرباء الصغيرة التي عجزت عن استيعاب الارتفاع الحالي في أسعار الغاز الطبيعي.
كما رصدت إيطاليا مليارات اليوروهات للتخفيف من آثار ارتفاع أسعار الطاقة على المستهلكين.

الاتجاه للفحم
وقد اشتدت أزمة نقص إمدادات الطاقة لدرجة أن الصين أمرت شركاتها الحكومية بتأمين الإمدادات بأي ثمن. كما استهلكت أوروبا مزيداً من مخزونها من أكثر أنواع الوقود الأحفوري تلوثاً، المستنفد بالفعل، وذلك في خطوة قد تعقّد محادثات المناخ الشهر المقبل.
وفي الصين، ورغم محاولة الحكومة زيادة حصة الطاقة المتجددة، فإن الاقتصاد الصناعي الصيني مازال يعتمد بشدة على الوقود الأحفوري، سواء الفحم أو النفط أو الغاز الطبيعي.
وتركت أزمة الطاقة المسؤولين والشركات الصينية في حالة من الذعر،، حيث يدرس مجلس الدولة في الصين زيادة أسعار الكهرباء بنسبة تصل إلى 20 في المائة لتشجيع توليد الطاقة ، بزيادة عن الحد الحالي البالغ 10 في المائة. كما أمرت بكين عمال مناجم الفحم توسيع الإنتاج بشكل كبير الأمر الذي يلقي بظلاله حول وعود الصين بالتحول عن الطاقة الخضراء ويثير الشكوك حول تحقيق ذروة انبعاثات الكربون بحلول عام 2030.
وتعمل الحكومة الصينية على تحقيق الاستقرار من خلال شراء المزيد من الفحم والغاز الطبيعي المسال من الخارج، الأمر الذي يضعها في منافسة مباشرة مع أوروبا، ما يهدد بحرمان القارة من الوقود وتفاقم تلك الأزمة.
وفي مؤشر على نقص الطاقة ، شهدت الهند التي تعتمد على الوقود لتوليد حوالي 70% من الكهرباء عجز في الطاقة، وتحتاج إلى رفع الإمدادات لتجنب خطر انقطاع التيار الكهربائي. وتسعى نيودلهي أيضا إلى تقليل التأثيرات قصيرة المدى على المستخدمين الصناعيين شديدي الاحتياج للطاقة ما دفعها للجوء بقوة إلى الفحم لتوليد الطاقة.
كما تقاوم الهند، ثالث أكبر دولة تطلق الغازات المسببة للاحتباس الحراري في العالم، ضغطا دوليا لبذل المزيد من الجهود للحد من الانبعاثات متذرعة باحتياجاتها التنموية المعتمدة على الفحم ، يمكن للأزمة الحالية أن تدعم هذه الحجة التي تسوقها الهند.

زيادة الانبعاثات
وستؤدي زيادة الإقبال وبشكل كبير على استخدام الوقود الأحفوري خاصة الفحم لزيادة الانبعاثات الكربونية وليس خفضها.
وأزمة الطاقة الحالية، بالإضافة إلى قرب حلول فصل الشتاء، والتعافي الذي يلوح بعد جائحة كورونا، كلها إشارات على زيادة الانبعاثات الكربونية، وهو ما يشكل انتكاسة جديدة لأهداف اتفاقية باريس للمناخ الرامية لخفض الانبعاثات لخفض درجة الحرارة بمقدار 1.5 درجة مئوية.
بحسب وكالة بلومبيرج ، تتجه الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم وأيضا الهند التي تشهد نهضة تنموية كبيرة وغيرهما من الاقتصاديات النامية على شراء المزيد من الفحم للتغلب على أزمة نقص الطاقة.
كما تتجه الولايات المتحدة كذلك إلى زيادة استهلاكها من الوقود الأحفوري الأكثر تلويثا للبيئة بمستويات تعد الأكبر لما يزيد على عقد.
وأكد خبراء على أن هرولة دول العالم حاليًا لتخزين الوقود الأحفوري مع اقتراب فصل الشتاء سيتسبب في تسجيل انبعاثات كربونية قياسية عالمية العام الحالي.
ويشكل هذا المنحنى تهديدا جديدا لمستهدف اتفاقية باريس للمناخ الرامي إلى تقليص الزيادات العالمية في درجات الحرارة إلى درجة ونصف مئوية.
تأتي الأزمة مع اقتراب انعقاد قمة المناخ في مدينة جلاسكو بأسكتلندا في شهر نوفمبر المقبل لبحث خفض الانبعاثات الكربونية ومواجهة ظاهرة الاحتباس الحراري.
فأزمة الطاقة التي يواجهها العالم فى الوقت الراهن تهدد بأن يكون لها تداعيات خطيرة على الاقتصاد العالمي في ظل ارتفاع أسعار الوقود الأحفوري.

مستقبل الطاقة النظيفة
ووفقا لوكالة بلومبرغ لأبحاث تمويل الطاقة المتجددة، فإن أزمة نقص الطاقة تحدث في الوقت الذي يتوقع أن يزداد فيه استهلاك الطاقة بنسبة 60% بحلول عام 2050، بينما يتخلص العالم تدريجياً من الوقود الأحفوري ويتحول إلى السيارات والمواقد وأنظمة التدفئة التي تعمل بالكهرباء.
وترتبط أنظمة الطاقة ببعضها البعض في جميع أنحاء العالم، الأمر الذي يجعل الأزمة بتداعياتها ملموسة في جميع أقطاره. ومن ثم، كانت للأزمة آثار ممتدة عبر الصناعات، والتي عطلت الإمدادات الغذائية وعرقلت سلاسل التوريد.
في الولايات المتحدة، تضاعفت العقود الآجلة للغاز الطبيعي بما يفوق الضعف هذا العام بالفعل، وذلك قبل ذروة الطلب التي تقترن ببرد الشتاء. وفي ظل توليد 40% من الكهرباء في البلاد حالياً عن طريق حرق الغاز، فإن هذه الأسعار المرتفعة ستؤدي حتماً إلى ارتفاع تكاليف الكهرباء والتدفئة.
وتأتي أزمة الطاقة في الوقت الذي تمر فيه الاقتصادات الغنية بواحدة من أكثر مراحل التحول في الأنظمة طموحا منذ عصر الكهرباء، حيث لا توجد طرق سهلة لتخزين الطاقة التي يتم توليدها من المصادر المتجددة.
ويعد تخزين الطاقة المولدة من مصادر المياه والرياح المتقطعة، أحد أكبر العقبات التي يواجهها العالم. كما أن عملية الحصول على الطاقة من الهيدروجين لا تزال في مراحلها الأولى ويمكن الاعتماد عليها بعد سنوات.
مصر وأزمة الطاقة
وبرغم اشتداد هذه الأزمة على كبريات الاقتصادات العالمية ،، أوضح محللون أن مصر لم تشهد أزمة طاقة وذلك بفضل ما قامت به خلال الـ 7 سنوات الماضية سواء بالتوسع في عمليات التنقيب عن البترول واكتشافات الغاز الضخمة في البحر المتوسط فضلا عن استمرار عمليات البحث عن مصادر جديدة ومتجددة للطاقة، كما قامت بإنشاء محطات جديدة وهو ما ساهم في التغلب على مشكلة نقص الطاقة.
ويتوقع محللون أن تعود هذه الأزمة بالنفع على مصر بارتفاع حصيلة تصدير الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا لاعتمادها على نظام المعاملات الفورية وليس عن طريق العقود الآجلة.
وقالوا إن الأسعار في الوقت الراهن تشهد زيادات مع اقتراب موسم الشتاء والذي يكون عادة موسم فائض في مصر من الغاز الطبيعي مما يعني أن أسعار وعائدات تصدير الغاز المسال المصري ستتضاعف.
وفي السياق ذاته أكد خبراء أن فصل الشتاء بالنسبة لمصر يمثل وفرة في الغاز الطبيعي نتيجة انخفاض استهلاك الكهرباء وبالتالي انخفاض قدرات توليد الكهرباء حيث إن قطاع الكهرباء يمثل القطاع الأكثر استهلاكا للغاز الطبيعي المصري ومن هنا يأتي فائض أكبر للتصدير للخارج عبر محطات الإسالة المصرية بدمياط وأدكو.
وتبلغ احتياطات مصر من الغاز الطبيعي نحو 2.186 تريليون متر مكعب أي ما يعادل 77.2 تريليون قدم مكعب وفقًا لبيانات شركة "بي بي" وإدارة معلومات الطاقة الأمريكية.
وبدأت مصر خطوات واسعة لتكون مركزا إقليميا للطاقة حيث ساهمت في إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط والذي يهدف للتعاون بين الدول وإنشاء سوق إقليمي للغاز في المنطقة.
وتعتمد مصر على محطتي إسالة الغاز في دمياط وإدكو لمد أوروبا بالغاز المسال بما يعود بالنفع على الاقتصاد المصري ويعزز من دورها كمركز محوري ورئيسي في تجارة وتوزيع الغاز بالمنطقة .
